فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا}
أما قوله: {سبحان} ففيه تأويلان:
أحدهما: تنزيه الله تعالى من السوء، وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير.
الثاني: معناه برأه الله تعالى من السوء، وقد قال الشاعر:
أقول لمّا جاءني فَخْرُه ** سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر

وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره، وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر، وهو من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات، وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية شبهانك، وقد ذكر الكلبي ومقاتل: إن {سبحان} في هذا الموضع بمعنى عجب، وتقدير الآية: عجب من الذي أسرى بعبده ليلًا، وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب، وجعل البيت شاهدًا عليه، وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر، ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سببًا للتسبيح صار التسبيح تعجبًا فقيل عجب، ومثله قول بشار:
تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت ** وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد

وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه:
أحدها: أن يستعمل في موضع الصلاة، من ذلك قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} [الصافات: 143]. أي من المصلين.
الثاني: أن يستعمل في الاستثناء، كما قال بعضهم في قوله تعالى: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} [القلم: 28]. أي لولا تستثنون.
الثالث: النور، للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأحرقت سبحات وجهه» أي نور وجهه.
الرابع: التنزيه، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال: تنزيه الله تعالى عن السوء، وقوله تعالى: {أسرى بعبده} أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والسُّرى: سير الليل، قال الشاعر:
وليلة ذا ندًى سَرَيت ** ولم يلتني مِنْ سُراها ليت

وقوله: {من المسجد الحرام} فيه قولان:
أحدهما: يعني من الحرم، والحرم كله مسجد، وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائمًا في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، روى ذلك أبو صالح عن أم هانئ.
الثاني: أنه أسرى به من المسجد، وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك. ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين:
أحدهما: أنه أسريَ بجسمه وروحه، روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان.
واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا، فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع به إلى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته.
وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به، ثم عاد إلى ملكه.
والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
وروي عن معاوية قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة، وكان الحسن يتأول قوله تعالى: {وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس} [الإسراء: 60]. أنها في المعراج، لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم، ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعبًا مغطى مملوءًا ماء، فشرب الماء ثم غطاه كما كان، ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعًا، وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت، وقال آخر: هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد، وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه.
وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصا} يعني بيت المقدس، وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام.
ثم قال تعالى: {الذي باركنا حوله} فيه قولان:
أحدهما: يعني بالثمار ومجاري الأنهار.
الثاني: بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدسًا، وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي». {لنريه من آياتنا} فيه قولان:
أحدهما: أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة، وهي مسيرة شهر.
الثاني: أنه أراه في هذا المسرى آيات.
وفيها قولان:
أحدهما: ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار.
الثاني: من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحدًا واحدًا.
{إنه هو السميع البصير} فيه وجهان:
أحدهما: أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير، وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها، وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل، فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير.
الثاني: أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه، فقال: السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب، البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج. اهـ.

.قال ابن عطية:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا}
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده، وهو محمد عليه السلام، ويظهر أن {أسرى} هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره، أسرى الملائكة بعبده، وكذلك يقلق أن يسند {أسرى} وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث: «أتيته سعيًا، وأتيته هرولة» حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و{أسرى} في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته و{أتى الله بنيانهم} [النحل: 26]، ويحتمل أن يكون {أسرى} بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]، ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابيًا، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته، إلا في صعوده إلى السماء، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل، وجوزه الحسن وابن إسحاق، والحديث، قال القاضي أبو محمد، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري: البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشًا التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هاني: لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60]، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا، واحتج أيضًا بأن في بعض الأحاديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام، وأما معاوية فكان كافرًا في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيرًا، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {سبحان} مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى {سبحان}، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفًا، هذا كله مذهب سيبويه فيه، وقالت فرقة: قال القاضي أبو محمد: نصبه على النداء كأنه قال: يا سبحان، قال القاضي أبو محمد الذي، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهًا لله، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله؟ قال: تنزيهًا لله من كل سوء، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهًا فوقع {سبحان} مكان قولك تنزيهًا، وقال قوم من المفسرين: {أسرى} فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة، وقرأ حذيفة وابن مسعود {أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام}، وقوله من {المسجد الحرام}، قال أنس بن مالك: أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال: هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال: «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة»، الحديث بطوله، وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان»، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال: أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب، وقالت فرقة: {المسجد الحرام} مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح: 27]، وعظم المقصد هنا إنما هو مكة، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي، وروي بعضها عن النبي عليه السلام، أنه قال: «خرج سقف بيتي» وهذا يلتئم مع قول أم هاني، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام، وقاله قتادة، وقيل بعام ونصف، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء.
فقال فيه: وذلك قبل الوحي إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك، و{المسجد الأقصا}، مسجد بيت المقدس، وسماه {الأقصى} أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة، ويحتمل أن يريد ب {الأقصا} البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة.
والبركة حوله هي من جهتين، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس» وقوله: {لنريه من آياتنا} يريد لنري محمدًا بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب، ويحتمل أن يريد لنري محمدًا للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة، وقوله: {إنه هو السميع البصير} وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمدًا في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي {هو السميع} لما تقولون {البصير} بأفعالكم. اهـ.